وقال المسعودي: حدثنا القاسم بن عبد الرحمن ، قال: جاء رجل إلى أبي ذر ، فقال: ما الإيمان ؟ فقرأ عليه هذه الآية: ( ليس البر أن تولوا وجوهكم) حتى فرغ منها. فقال الرجل: ليس عن البر سألتك. فقال أبو ذر: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عما سألتني عنه ، فقرأ عليه هذه الآية ، فأبى أن يرضى كما أبيت [ أنت] أن ترضى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشار بيده: " المؤمن إذا عمل حسنة سرته ورجا ثوابها ، وإذا عمل سيئة أحزنته وخاف عقابها ". رواه ابن مردويه ، وهذا أيضا منقطع ، والله أعلم. وأما الكلام على تفسير هذه الآية ، فإن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولا بالتوجه إلى بيت المقدس ، ثم حولهم إلى الكعبة ، شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين ، فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك ، وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل ، وامتثال أوامره ، والتوجه حيثما وجه ، واتباع ما شرع ، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل ، وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق إلى المغرب بر ولا طاعة ، إن لم يكن عن أمر الله وشرعه; ولهذا قال: ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر) الآية ، كما قال في الأضاحي والهدايا: ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) [ الحج: 37].
( والسائلين) وهم: الذين يتعرضون للطلب فيعطون من الزكوات والصدقات ، كما قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع وعبد الرحمن ، قالا حدثنا سفيان ، عن مصعب بن محمد ، عن يعلى بن أبي يحيى ، عن فاطمة بنت الحسين ، عن أبيها - قال عبد الرحمن: حسين بن علي - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " للسائل حق وإن جاء على فرس ". رواه أبو داود. ( وفي الرقاب) وهم: المكاتبون الذين لا يجدون ما يؤدونه في كتابتهم. وسيأتي الكلام على كثير من هذه الأصناف في آية الصدقات من براءة ، إن شاء الله تعالى. وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، حدثنا شريك ، عن أبي حمزة ، عن الشعبي ، حدثتني فاطمة بنت قيس: أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفي المال حق سوى الزكاة ؟ قالت: فتلا علي ( وآتى المال على حبه). ورواه ابن مردويه من حديث آدم بن أبي إياس ، ويحيى بن عبد الحميد ، كلاهما ، عن شريك ، عن أبي حمزة عن الشعبي ، عن فاطمة بنت قيس ، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " في المال حق سوى الزكاة " ثم تلا ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب) إلى قوله: ( وفي الرقاب) [ وقد أخرجه ابن ماجه والترمذي وضعف أبا حمزة ميمونا الأعور ، قال: وقد رواه بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي].
وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية: ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا. فهذا حين تحول من مكة إلى المدينة ونزلت الفرائض والحدود ، فأمر الله بالفرائض والعمل بها. وروي عن الضحاك ومقاتل نحو ذلك. وقال أبو العالية: كانت اليهود تقبل قبل المغرب ، وكانت النصارى تقبل قبل المشرق ، فقال الله تعالى: ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب) يقول: هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل. وروي عن الحسن والربيع بن أنس مثله. وقال مجاهد: ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله ، عز وجل. وقال الضحاك: ولكن البر والتقوى أن تؤدوا الفرائض على وجوهها. وقال الثوري: ( ولكن البر من آمن بالله) الآية ، قال: هذه أنواع البر كلها. وصدق رحمه الله; فإن من اتصف بهذه الآية ، فقد دخل في عرى الإسلام كلها ، وأخذ بمجامع الخير كله ، وهو الإيمان بالله ، وهو أنه لا إله إلا هو ، وصدق بوجود الملائكة الذين هم سفرة بين الله ورسله) والكتاب) وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء ، حتى ختمت بأشرفها ، وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب ، الذي انتهى إليه كل خير ، واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة ، ونسخ [ الله] به كل ما سواه من الكتب قبله ، وآمن بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.